توفيت يوم السبت 5 أكتوبر 2024 بمنزلها بالدار البيضاء الممثلة المسرحية والإذاعية والتلفزيونية والسينمائية المغربية القديرة نعيمة المشرقي عن عمر ناهز 81 سنة. فيما يلي إطلالة على البعد السينمائي في مسارها الفني الطويل:
ستون سنة أمام كاميرا السينما:
انطلقت التجربة الفنية للممثلة نعيمة المشرقي من المسرح منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي وانفتحت بعد ذلك على السينما والتلفزيون والإذاعة ومجالات أخرى.
أول وقوف أمام كاميرا السينما:
وقفت نعيمة المشرقي لأول مرة كممثلة أمام كاميرا السينما في مطلع الستينيات، أولا في الفيلم الإسباني الطويل “انتقام دون ميندو” (1962) لفرناندو فرنان غوميز (1921-2007)، وهو عبارة عن كوميديا اجتماعية يطغى عليها الطابع المسرحي، ثم بعد ذلك في فيلمين طويلين آخرين الأول مغربي والثاني فرنسي إسباني إيطالي مشترك. يتعلق الأمر بفيلم “حديث الأجيال” (90 دقيقة) لزوجها السينمائي عبد الرحمان الخياط، خريج معهد الدراسات السينمائية العليا بباريس سنة 1962 (الدفعة 17 تخصص: إخراج وإنتاج ومحافظة)، وهو عبارة عن أوبيريت أو ملحمة غنائية بمشاركة ممثلين كمحمد الخلفي ونعيمة المشرقي ومطربين كعبد الهادي بلخياط وعبد العاطي أمنة ولطيفة أمل وغيرهم، أنتجته التلفزة المغربية في عهد مديرها الأستاذ عبد الله شقرون (1926- 2017) وصور بكاميرا 35 ملم انطلاقا من سيناريو كتبه عبد الله المصباحي. وقد ساهم في إنجازه سينمائيون آخرون من قبيل لطيف لحلو وعبد الله الزروالي… أما الفيلم الثاني فهو بعنوان “الدار البيضاء، عش جواسيس” للمخرج الفرنسي آنري دوكوان (1890- 1969). وهذا الفيلم الأخير عبارة عن دراما ذات مسحة بوليسية تجسسية لا تخلو من قصة حب وتوابل أخرى.
فيلموغرافيا غنية بالعناوين:
بعد هذه الأفلام الثلاثة شاهدنا نعيمة المشرقي في مجموعة من الأفلام السينمائية المغربية والأجنبية، التي شخصت فيها أدوارا مختلفة أبانت من خلالها عن علو كعبها كممثلة محترفة وموهوبة. من هذه الأفلام الطويلة والقصيرة نذكر العناوين التالية تباعا: “عرس دم” (1977) لسهيل بن بركة و”44 أو أسطورة الليل” (1981) لمومن السميحي و”أيام شهرزاد الجميلة” (1982) لمصطفى الدرقاوي و”بادس” (1988) لمحمد عبد الرحمان التازي و”حجر الصحراء الأزرق” (1992) لنبيل عيوش و”فرسان المجد” (1993) لسهيل بن بركة و”البحث عن زوج امراتي” (1993) لمحمد عبد الرحمان التازي و”البند الثاني” (1994) للمخرج الإيطالي موريتسيو زاكارو (بتعاون مع محمد عسلي) و”للا حبي” (1996) لمحمد عبد الرحان التازي و”زنقة القاهرة” (1998) لمحمد عبد الكريم الدرقاوي و”فاتن” (1999) لمحمد فاخر و”مقهى الشاطىء” (2000) للفرنسي بونوا كرافان (ساهم في إنتاجه لطيف لحلو) و”خط الشتا” (2000) لفوزي بن السعيدي و”وبعد” (2001) لمحمد إسماعيل و”جارات أبي موسى” (2003) لمحمد عبد الرحمان التازي و”الأهالي” (2006) للفرنسي من أصل جزائري رشيد بوشارب و”إيمان سيء” (2006) للفرنسي من أصل مغربي رشدي زيم و”الدار الكبيرة” (2009) للطيف لحلو و”دم وماء” (2014) لعبد الاله الجوهري و” كيليكيس.. دوار البوم” (2018) لعز العرب العلوي لمحارزي و”دموع الرمال ” (2018) لعزيز السالمي و”كازا ما بيل” (2020) لليلى مسفر و”خريف التفاح” (2020) لمحمد مفتكر…
من أنجح هذه الأفلام تجاريا نشير إلى فيلم محمد عبد الرحمان التازي “البحث عن زوج امراتي”، الذي شخصت فيه دور إحدى الزوجات الثلاث لتاجر المجوهرات الحاج بنموسى، وهو كوميديا اجتماعية اجتمعت فيها كل توابل النجاح الجماهيري. ومن الأفلام ذات القيمة الفنية والفكرية، التي خلفت صدى طيبا لدى نقاد السينما ورواد الأندية السينمائية، بشكل خاص، وحصد بعضها العديد من الجوائز نذكر فيلمان دراميان اجتماعيان على الأقل هما “بادس” لنفس المخرج و”خريف التفاح” لمحمد مفتكر، وقد حصلت المشرقي على جائزة أفضل تشخيص عن دورها في هذا الفيلم الأخير سنة 2021 بمهرجان السينما العربية بمالمو (السويد)…
المسرح هو الأصل:
تعتبر نعيمة المشرقي بمثابة إحدى عميدات فن التشخيص بالمغرب، إلى جانب ممثلات أخريات، من بينهن بشكل خاص صفية الزياني (84 سنة) والشعيبية العدراوي (82 سنة) وعائشة ماهماه (81 سنة) ومليكة العماري (80 سنة)، ساهمن بقسط وافر في ترسيخ فن التشخيص على أسس متينة ببلادنا، سواء على خشبات المسرح أو من خلال ميكروفون الإذاعة أو على شاشتي التلفزيون والسينما، فتجربتها التشخيصية تجاوزت ستة عقود من الزمان، احتكت عبر محطاتها المختلفة بمبدعين كبار من داخل المغرب وخارجه، تأليفا وإخراجا وتشخيصا.
يذكر أن الإنطلاقة الفنية الأولى لنعيمة المشرقي كانت في خمسينيات القرن الماضي منذ مرحلة الطفولة عبر أنشطة مدرسية وغير مدرسية، وتلاها انخراط في مسرح الهواة بمختلف تلويناته وصولا إلى مرحلة الإحتراف وما ارتبط بها من نضج ملحوظ ودراية كافية بطبيعة العمل الفني وتمكن من أدوات التعبير بالصوت والجسد وتقاسيم الوجه، على الركح وأمام الكاميرا والميكروفون.
استفادت كغيرها من هواة المسرح الرواد، منذ سنة 1958، من التداريب التي نظمتها وزارة الشبيبة والرياضة بمركز الفن الدرامي بالمعمورة تحت إدارة الأستاذ بيير لوكا وشاركت في عدة مسرحيات من بينها “كاليكولا” للممثل والمخرج الراحل مصطفى التومي و”البغلة المسحورة” من إخراج شارل نوغيس وتشخيص فرقة المعمورة و”ألعاب الحب والصدفة” من إقتباس وإخراج الطيب الصديقي.
وابتداء من سنة 1962 قررت التفرغ للمسرح بشكل احترافي وانضمت إلى فرقة المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط، التي كان الرائد الراحل الطيب الصديقي مديرا تقنيا لها إلى جانب مديرها العام الفرنسي السيد سيليريي…
ممثلة تفرض احترامها على المتلقي:
من الصعب الفصل في التجربة الفنية للراحلة نعيمة المشرقي، المزدادة سنة 1943 بالدار البيضاء والمتوفية بها سنة 2024، بين الأبعاد المسرحية والسينمائية والإذاعية والتلفزيونية وغيرها، وذلك لأن حضورها كان قويا في هذه المجالات كلها سواء كممثلة أو كصوت إشهاري أو كمقدمة ومنشطة لسهرات وبرامج إذاعية وتلفزيونية وغير ذلك، زد على ذلك حضورها الوازن على الواجهة الإجتماعية كسفيرة للنوايا الحسنة (اليونيسيف) ومستشارة للمرصد الوطني لحقوق الطفل، وعلى الواجهة النقابية كعضوة نشيطة داخل وخارج النقابة الوطنية لمحترفي المسرح، وعلى الواجهة الجمعوية والثقافية والمهرجانية وغيرها كعضوة في لجن تحكيم المهرجانات المسرحية والسينمائية والتلفزيونية أو في الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري…
تأسرك هذه الممثلة القديرة بأدائها التلقائي المقنع، وبطريقتها الجميلة في التواصل عندما تنشط البرامج والسهرات أو تتحدث عبر وسائل الإعلام المختلفة. لقد تعلمت من ممارستها للفن كيف تكون قريبة من الناس وتتعامل معهم ببساطة وتواضع وعمق إنساني. ومما لاشك فيه أن زوجها عبد الرحمان الخياط (84 سنة)، الفنان المثقف والمخرج والمنتج السينمائي والتلفزيوني والمسرحي، قد لعب دورا كبيرا، كزوج ومستشار فني، في صقل موهبتها والارتقاء بها إلى مستوى عال من التميز والتألق، وذلك على امتداد ستة عقود من الزواج في الفن والحياة.
حظيت طيلة مسيرتها الفنية بتكريمات داخل الوطن وخارجه تجاوز عددها بكثير رقم 100، ولعل آخرها وهي على قيد الحياة كان في حفل افتتاح الدورة الثانية للمهرجان الدولي لسينما الجبل بأوزاود مساء الثلاثاء ثالث شتنبر 2024.
رحمها الله وألهم ذويها وأصدقاءها ومحبيها الصبر الجميل.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
بقلم: أحمد سيجلماسي